وقفت مترددا علي باب مقهي ..... لحظات
ثم اتجهت إلي منضدة تطل علي الشارع
وجلست علي أحد الكراسي المرصوصة حولها.
كان المقهي خاليا إلا من أربعة أو خمسة زبائن
انهمك بعضهم في تدخين الشيشة
وانشغل بعضهم الآخر بلعب الطاولة
أما الجرسون الذي كان يقف عند الباب
فقد تبعني كظلي
ولم يمهلني حتي استقر في مجلسي
وألتقط انفاسي
ووقف في مواجهتي كأنني مدين له..
وعندما طلبت منه فنجان قهوة مضبوط
انصرف دون أن ينبس بكلمة..
عشرون عاما مضت لم ادخل خلالها هذا المقهي
بل ولم يخطر في بالي أن اجئ إليه..
ولا اعرف لماذا استولت عليّ اليوم هذه الرغبة العارمة في ارتياده
ولا لماذا لم يكن في استطاعتي مقاومتها..
وها أنا الآن في داخله..
علي نفس المنضدة التي كنت أفضل الجلوس بجانبها..
وها هو كل شئ يبدو كما هو تقريبا..
المناضد الرخامية ..الكراسي الخيزران.. المرايات
علي الحوائط.. المراوح المعلقة في السقف ..
صاحب المقهي خلف مكتبه الصغير بجوار النصبة..
ومع ذلك فإن احساسا بالغربة استيقظ في داخلي
سرعان ما تعاظم حتي استولي علي تفكيري..
هناك بالقطع شئ مختلف..
ربما يكون فيما حولي وربما يكون في داخلي أنا..
أو لعل السنوات العشرين التي مضت من العمر هي السبب
في تجسيد أحاسيس لم يكن في وسعي إدراكها في أيام الصبا؟..
جاء الجرسون وصب القهوة في الفنجان ثم وضع بجواره كوب
الماء المثلج وانصرف بهدوء..
ونظرت إلي الفنجان فخطر علي ذهني سؤال:
لماذا يقدم دائما كوب الماء مع فنجان القهوة؟..
وقبل ان انشغل بالبحث عن إجابة لفتت انتباهي فتاة
في حوالي السادسة عشرة من عمرها تسير علي الرصيف
وهي ترتدي بلوزة تستر النهدين والقليل جدا مما اسفلهما
وبنطلونا يبدأ بحزام عريض من عند أعلي الفخذين مباشرة
بينما البطن بأكمله عار بكل تفاصيله!!
ولا اعرف لماذا تابعتها حتي اختفت في الزحام
وبعد ذلك حاولت أن أتذكر سؤالي عن كوب الماء وفنجان القهوة
لكن اسئلة اخري فرضت نفسها..
لماذا ترتدي بعض الفتيات _الطرحة_ حول الرأس والوجه
وفي نفس الوقت البلوزة _محزقة وملزقة_ تفسر ما تحتها
والبنطلون يلتصق بساقيها فتبدو كأنها عارية؟..
لماذا تخلت سيدات فاضلات عن لقب (الحرم المصون)
وجلسن علي أرصفة المقاهي يتسابقن في تدخين الشيشة
واطلاق دخان معسل 'التفاح' و'الفراولة' من بين
شفاههن وفتحات أنوفهن كثيفا غزيرا؟!
لماذا يرتدي بعض الشبان قمصانا بغير أكمام
ويفتحون صدورهم للكشف عن السلاسل والميداليات
التي يضعونها حول أعناقهم ويحرصون علي أن تكون
بنطلوناتهم ممزقة أو جربانة أو قذرة..
ويتركون شعر رءوسهم بغير تمشيط
ولا يحلقون لحاهم ولا يطلقونها؟
ماذا جري لبلادنا ولماذا تحولت إلي بلاد المتناقضات؟!
ولماذا تبث قنوات التليفزيون هذا الاسفاف السمعي والبصري..
ولماذا يوافق المسئولون عن التليفزيونات العربية التي تملكها
الشعوب العربية علي تأجير ساعات إرساله لوكالات الاعلانات
ويتركون لها حرية الفعل والقول لنري علي شاشاتنا _الموقرة_
(مذيعة) تغني أو ترقص و(مذيعا) يغني أو يطبل
لـ _محروس أو محروسة_ من فناني الدرجة الثالثة..
وياسلام علي الروعة ويا حلاوة علي الجمال والابداع
ويا ميت مسا علي الفنانين الواعدين الذين يبعثرون الدولارات
والريالات والدينارات والجنيهات علي الشمال واليمين..
والمصيبة السوداء ان هذه البرامج _التافهة_ تحتل الاوقات
المميزة في السهرة أما البرامج التي يقوم باعدادها وتقديمها
البقية المثقفة من العاملين القدامي في التليفزيون فقد خصص
لها المسئولون أوقاتا تبدأ من الثانية والنصف بعد منتصف الليل!!
وجاء الجرسون
فتذكرت أنني نسيت أن أشرب القهوة
وعندما سألته اذا كان من الممكن احضار غيرها
رمقني بنظرة أدركت علي الفور معناها
فطمأنته بأنني سأدفع ثمنها أيضا..
وقبل ان ينصرف توقف أمام المقهي باص صغير واندلعت منه
صرخات حريمي متتالية واحتدمت في داخله معركة رجالي..
وبعد لحظات نزلت من بين الأجساد المكدسة داخل الباص
فتاة في حوالي الخامسة عشرة..
الدموع علي خديها والبهدلة علي ملابسها وشعرها..
وبعدها نزل شاب في حوالي الخامسة والعشرين
وخلفه آخرون يكيلون له الضربات..
و صاح رجل وقور وقف يتابع ما يجري .. حسبنا الله ونعم الوكيل..
حسبنا الله ونعم الوكيل ..
وقال آخر :عليه العوض ومنه العوض.
وجاء الجرسون ومعه القهوة الجديدة
وقال وهو يصبها في الفنجان: اشربها قبل أن تبرد.
فقلت له:
أريد ان أسألك عن سبب تقديم الماء مع القهوة؟
ونظر إليّ ولم يرد ومد يده فتناول الفنجان القديم بما فيه وانصرف
ثم توقف فجأة وعاد إليّ ليضع كوب ماء جديدا ويأخذ القديم..
وقال: أصلها سخنت!!
وحاولت ان امازحه لكنه ابتعد بسرعة فابتلعت رغبتي
وعدت أسأل نفسي..
صحيح لماذا يقدم كوب الماء مع فنجان القهوة!!
فارس الكلمة